موضوع: العشق فى الظلام الأربعاء ديسمبر 29, 2010 2:25 am
عندما يغلق باب المقهى لا يبقى ساهرا فوق أرض الحارة الا الخفير . لتفقد أبواب الدكاكين ، و يذهب و يجيء ما بين الميدان و ممر القرافة سائرا فى ظلام دامس متلمسا طريقه بغريزته المكتسبة من العمل و معلقا بندقيته بمنكبه و بين حين و آخر يطلق نذيره الحلق الذى يشق الظلمه . أطلق عليه منذ بدء خدمته : "أبو الهول" بما يرمز له الاسم فى الذاكرة الشعبية من الجلال و الرهبة ، الواقع أنه ذو طول مؤثر و عرض لا يتناسب مع ذلك الطول ، أما شاربه فيقف عليه الصقر ، و أما رأسه فصغير و قلبه طيب لا يتوافق مع أغراض وظيفته ، والحق أنه مضى يهزل و برق و تتجمع فى عينيه سحابة حزن ، و تساءلت القلة التى تراه و هو يبدأ عمله الليلى عن السر . و تجرأ أحدهم فقال له : 1 لست على ما يرام يا خفير بندق . فأجاب بغموض قائلا : 1 هى الدنيا يا معلم . انه يعاشر الظلام ، و لا يعرف من أهل الحارة الا الراجعين قبيل الفجر من الحشاشين و السكيرين و الخباصين ، و لعله لا تصل الى مسمعيه فى صمت الليل الا الأنات الشاكية ، و قيل انه سيهزل و يهزل حتى تعجز الأعين عن رؤيته . و لكن الأنات الشاكية لم تكن الأصوات الوحيده التى تزحم أذنيه . هناك الصوت الذى يتسلل من نافذه بدروم البيت القائم أمام السبيل أسمعه أنين الحب و أنغامه . كل ليلة عقب عودة النجار من سهرته ، يترنح و يدندن ثم يهبط الى مسكنه ، و بعد فتره وجيزة تتسلل الأنغام من منافذ النافذة ، كل ما استطاع أ، يعرفه أن البدروم مسكن للنجار و امرأته ست بطه ، و لكنه لم يرها أبدا . انها تقضى شئونها فى غرفتها . عرفها من صوتها آخر الليل ، و لم يكن من أهل الحارة و لكنه عشق الصوت ، و هام به هياما حتى نبض فى قلبه. و تردد فى أنفاسه . يسمعه ليله بعد أخرى و يتشربه ساعة بعد أخرى و يخلق من ترنيماته و تهويماته صورة جامعة لمحاسن نساء الريف و المدن ، يناجيه فى سهرته الطويلة و يستغيث به فى وحدته ، و تجسد له مرات فحاوره و دعاه و قال له لا يعرف الألم الدفين الا خالقه و لا يغيظه شىء كما يغيظه دندنة النجار و هو عائد مترنحا . و خطر له أنه لو أعياه السطول ليله فسقط لحمله الى الداخل ليرى ست بطه . و رن سوته فى القبر مرة و هو يغنى : (( باسمع نغم الليل عشق الحبايب هدنى الحيل)) و أعجبه صدى صوته داخل القبو فأعاد الغناء و فاض به الحنين فتساءل : - و ايش بعد الغناء يا بندق ؟؟ و جاء صوت من وراء باب الحصن الأثرى : - ما بعد الغناء الا العمل .. فارتعد متذكرا ما يقوله أهل الحارة عن سكان القبو . و لكنه تشجع ضاغطا بذراعه على بندقيته و سأل بلهجة ميرى : 2 من أنت ؟ ... كيف دخلت الحصن ؟ فأجاب بصوت باسم : 4 أنا شيطان يا خفير بندق ، و لولا الشيطان ما كان الانسان . و سرى الصوت فى كيانه بقوة فلم يشك أنه بحضرة شيطان حقيقى . حاول أن يتلو سورة و لكن رأسه أفرغت من محفوظاتها القليلة ، و سأله مستسلما : - ماذا تريد؟ - ماذا تريد أنت ؟؟ - ما أريد الا أداء واجبى . - أنت كذاب . و ترامت اليه دندنة النجار و هو راجع فخفق قلبة و قال الصوت من وراء الباب المغلق: - أعطنى بندقيتك ... لم يذعن و لم يرفض و لكنه شعر بالبندقية تنزع من حول منكبة . و فجاءة دوت طلقة نارية فمزقت مخالبها ستار الليل ، نام ثوان فحلم ثم صحا . و لما صحا رأى شفافية الضياء الباكر تهبط فى مركبة سماوية و رأى لمة تحيط بجثة يتدفق الدم من فيها و انكبت فوق الجثة امرأة و هى تصرخ و تبكى و تندب أبا العيال و ندت عنه حركة فاتجهت اليه الابصار و أكثر من صوت سأل : 5 من قتل الرجل يا خفير بندق ؟؟ فتراجع حتى استند الى شرفة السبيل و هو يحدق فيهم 6 لابد أنك رأيت كل شىء .. فمن قتل الرجل ؟ فأجاب بذهول : 7 قتله الشيطان ...! و كان يرى ست بطة لأول مرة ، و لآخر مرة .